لا يبدو أن العقوبات على روسيا تؤتي ثمارها إلى ساعة كتابة هذا التقرير بل على العكس تُعرض العالم لنكسة اقتصادية كبرى لم يشهد لها الاقتصاد العالمي مثيلا منذ الكساد العظيم. فحين انطلقت شرارة العمليات الروسية في أوكرانيا، كان يبدو أن الرئيس الروسي عازم على توقيع مرسوم واحد وهو نهاية القطبية الأحادية بلا رجعة.
واليوم لم تعد الحرب العسكرية هي الأهم إعلاميا بل إن حرب المعلومات والمعلومات المضللة وتزييف الحقائق هي التي تسود وتتسيد الساحة للتأثير على الرأي العالمي. فنحن اليوم في بداية فصل الربيع وهو موعد زراعة المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح والذرة في العالم. فمع توقيع الرئيس بوتين مرسومه بوقف تصدير تلك المنتوجات إلى الدول إلا بعض الدول الصديقة لروسيا، فإننا أمام سيناريو مجاعة بكل ما في الكلمة من معنى يتخلله زيادة حادة في الأسعار لا يقوى على تحملها غالبية المواطنين في كافة دول العالم.
قبل أيام، عندما فرض الرئيس بوتين مرسوماً يحظر تصدير الموارد الطبيعية إلى الخارج ومنها الموارد النادرة التي تستخدم في الصناعات ذات التكنولوجيا العالية وصناعات الأسلحة مثل النيكل والبلاتين والتيتانيوم فإن ذلك رد فعل على عقوبات غربية لبلاده. وهنا لا بد أن نعرف هذه الحقائق عما يستورده الغرب من روسيا التي توفر ١٦٪ من صادرات العالم من النيكل، و٤٠٪ من البلاديوم، و40٪ من حاجات أوروبا من الغاز، و٣٠٪ من النفط. ولما كانت روسيا وما جاورها تصدر للعالم نحو 45٪ من صادرات القمح، فإن ذلك يعني ضمناً أن الرئيس الروسي بات يتح?م بمصير الشعوب الأوروبية والعالم. وفي هذا السياق، لا بد من التذكير بأن روسيا تمتلك ٢٥٪ من احتياطيات النفط، و٣٢٪ من الغاز العالميين.
تعتبر روسيا أكبر دولة في العالم بها احتياطيات ذهب غير مستكشفة، حيث تم اكتشاف العديد من رواسبها الضخمة مؤخراً نسبياً. وتتفاوت التقديرات على نطاق واسع، لكن من المحتمل أن تصل حصة روسيا إلى ٤٠٪ من المعروض العالمي من الذهب. وتعد روسيا حالياً ثالث أكبر منتج للذهب في العالم ولديها خامس أكبر احتياطي من الذهب. وتشتري الحكومة الروسية الذهب بكميات هائلة جزئيا لتنويع احتياطياتها بعيداً عن الدولار الأميركي.
ولعل السيناريو الأخطر لأوروبا هو أن الغاز الروسي يباع بسعر ٧٠ دولاراً لكل ألف متر مكعب في روسيا الاتحادية بينما ارتفع هذا السعر في أوروبا إلى ٣٠٠٠ دولار لكل ألف متر مكعب وهو مرشح للزيادة في الأيام القادمة إذا ما استمر الصراع على الساحة الدولية حول أوكرانيا. كما أن وقف إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا سيؤدي إلى شلل الاقتصاد الأوروبي وتوقف عجلة الصناعة ما سيؤدي إلى ثورات داخلية في تلك الدول للمطالبة برحيل تلك الحكومات وعدم تعاطيها السياسة المعادية لروسيا.
فإذا ما وصل التضخم في أوروبا الى مستويات أكثر من ١٠٪، فإن ذلك يعني أن المدخرات ستتبخر بنفس السياق إن لم يكن أكثر. فمع زيادة التضخم العالمي ينتهي الدولار كعملة رئيسة لأنه لن تعود هناك ثقة في العملة التي سيطرت على العالم عقوداً طويلة. وهذا ما يفسر تعاطي بعض الدول بالعملات المحلية هذه الأيام للخروج من عباءة الدولار الأميركي.
فما بين تقنين الاستهلاك والمحطات النووية، هل تملك أوروبا بديلاً للغاز الروسي؟ على المدى القصير لا يمكن تحقيق ذلك، ولكن يمكن تحقيقه على المدى الطويل هذا إن لم يتفكك الاتحاد الأوروبي قبل ذلك الموعد.